همسات كهربائية.. معرض للفنانة را دي مارتينو في بيروت
Thursday, 19-Jun-2025 18:56

يقدّم المعهد الثقافي الإيطالي في بيروت، بالتعاون مع مركز بيروت للفنون، معرض همسات كهربائية، وهو معرض فردي للفنانة الإيطالية البصرية را دي مارتينو (مواليد روما، 1975)، وسيفتتح المعرض في 24 حزيران 2025.


يسلّط المعرض الضوء على أعمالها الحديثة التي استلهمتها خلال إقامة فنية إبداعية في بيروت، إلى جانب مجموعة مختارة من أعمالها السابقة التي تعبّر عن مسار بحثي متعدد الاختصاصات يمتدّ عبر الفيديو، والتصوير الفوتوغرافي، والسينما، والرسوم المتحرّكة ثلاثية الأبعاد.


يتوسّط المعرض عمل بعنوان تركيز الانتباه (إلى الأعلى!) (2025)، وهو عمل جديد مبتكر يُعرض للمرة الأولى في بيروت. يتألّف هذا العمل المركب من شريحتين معروضتين عبر الإسقاط الضوئي، مُستمدّتين من بحث أرشيفي أجرته الفنانة دي مارتينو. تُصوّر الأولى مشهدًا بالأبيض والأسود مُعاد معالجته لصورة أرشيفية من عرض مسرحي، يظهر فيه جمع من الناس يحدّقون إلى السماء، في لحظة متأرجحة بين الانبهار والترقّب. أما الثانية، فتصوّر صفحة من رواية خيال علمي تعود إلى خمسينيات القرن العشرين، تطغى عليها صورة طبق طائر ضخم. وتولّد الصورتان معًا سردًا بصريًا عن التوق والتطلّع، يحاكي الشعور بالتيه والدهشة المرتبطين دومًا بتصوّرات المستقبل المُتخيّل.


كما يضمّ المعرض أيضًا سلسلة فوتوغرافية مستمرة بعنوان أشجار مفتوحة (2012 – حتى الآن)، تُعرض في بيروت مرفقة بصورة أرشيفية جديدة معدلة رقميًا، التُقطت عام 1908 وتُجسّد مشهدًا طبيعيًا من مدينة صيدا. وتُعرض هذه الصور بالأبيض والأسود تحت إضاءة فوق بنفسجية، لتبعث في المتلقي إحساسًا بانهيار الزمن على ذاته، وتطرح تساؤلات حول الحقيقة والتاريخ بوصفهما مفاهيم غير نهائية.


ومن خلال العودة إلى التقنيات التناظرية ومعالجتها رقميًا، تستقصي الفنانة دي مارتينو كيف يعاد تشكيل الذاكرة والمكان باستمرار.
أما العمل الرئيسي همسات كهربائية، فينبثق من صورة التُقطت في صالة ألعاب إلكترونية بمدينة طرابلس. يظهر فيها طفل وحيد، جالسٌ وظهره للكاميرا، غارقٌ في عالم من الخيال الرقمي، مانحًا لحظة تأمّل هادئة حول كيفية تشكيل الفضاءات الافتراضية لهوية الأجيال الناشئة. تُعيد المعالجة الرقمية للصورة صياغة المكان على هيئة هندسة متكسّرة، تعكس منطق الإدراك المعدّل الذي تفرضه الثقافة الرقمية. ويمثّل هذا العمل أيضًا بداية مشروع سينمائي جديد تخطّط دي مارتينو لتصوير أجزاء منه في لبنان.


وتُجسّد هذه الأعمال، المتجذّرة في اللقاءات المحلية والأراشيف البصرية والأسئلة المعاصرة حول الهوية، عدسة تجمع وتتأمل من خلالها الفنانة تقاطع الذاكرة مع التكنولوجيا والمخيّلة المستقبلية.
كما يتضمّن المعرض مجموعة منتقاة من أعمال سابقة ذات أهمية، سبق عرضها عالميًا. ففي عمل ( Kant Can’t 2024-2025 )، وهو رسوم متحرّكة ثلاثية الأبعاد صُمّمت باستخدام برمجيات ألعاب الفيديو، يظهر روّاد فضاء يهرّبون من حشرات عملاقة وأطراف ضخمة داخل فضاء افتراضي مشوّش، يُضخّم من خلاله الإحساس بفقدان المقياس الإنساني والمعرفة العقلانية. وتغدو هذه الرحلة عبر الشيفرة الرقمية استعارةً للتيه الوجودي وتلاشي اليقين المعرفي.


وفي عمل ( Afterall 2019)، وهو تركيب ثنائي القناة، تتجوّل كائنات غريبة – ما بين آلهة تائهة ومتشردين مستقبليين – في بيئات هجينة تجمع بين الرقمي والمادي، على أنغام صوتية مؤلفة من همسات، واناشيد، وإيقاعات طبيعية، وترددات نشاز. وتشكّل هذه اللوحة السمعية-البصرية انعكاسًا لرؤية الفنانة دي مارتينو لواقع سائل تُمحى فيه الحدود بين الذات والنوع الفني.


أما في( Poor, Jerry 2017)، فتظهر شخصية كرتونية تائهة تُشبه "جيري" من سلسلة "توم وجيري"، تتجوّل في مناظر لانزاروت البركانية، وهي تُحرّك شفتيها بمزامنة حوار عاطفي مستقى من أفلام رومانسية. ويستقصي العمل قدرة الصورة واللغة على الاحتفاظ بالمعنى في زمن التماثل البصري والثقافي.


وفي L’eccezione (٢٠١٩)، نُشاهد تمثالًا مكسورًا ولكنه ينبض بالحياة على أنغام الموسيقى التصويرية لفيلم Flashdance، في تلميح إلى كيف أصبحَت التجربة السينمائية – التي كانت في الماضي غامرة ومتسلسلة – مجزأةً اليوم تحت تأثير التحوّلات الجمالية والإدراكية التي فرضتها الوسائط الرقمية.


يتناغم المشروع الفني للفنانة را دي مارتينو مع مقاربات فكرية ترى في التكنولوجيا الرقمية أكثر من مجرد أدوات محاكاة، بل بوابات للتفكير الفلسفي والتأمل السياسي. وكما يشير الباحث ستيفانو غواليني في كتابه لعبة الفيديو والعالم (دار تيميو، 2024): "تُتيح لنا التكنولوجيا أن نكون، ولو موقّتًا وبالنيابة، شيئًا آخر غير ما نحن عليه... ففي العوالم الافتراضية تنشأ تساؤلات وجودية وفلسفية، ليست ذات قيمة اقتصادية فحسب، بل اجتماعية وسياسية أيضًا."


يدعو معرض همسات كهربائية الزائرين إلى تجاوز التمايز الشكلية للوسائط، وإعادة النظر في دور التكنولوجيا بوصفها فضاءً للصحوة الجمالية، والتفكّر النقدي، والاستكشاف الشعري. وفي عالم تميزه الهشاشة والتحوّل، تفتح أعمال دي مارتينو بوابات نحو واقع بديل، حيث تتقاطع الذاكرة مع المخيّلة والثقافة البصرية لترسم معالم مستقبل غير متوقّع.

الأكثر قراءة